فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال البغوي: وجاء في الحديث: «أنّ أحد أبوي بلقيس كان جنيًا فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك، فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون، وملكوا عليهم رجلًا وافترقوا فرقتين كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن، ثم إنّ الرجل الذي ملكوه أساء السير في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهنّ، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها، وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا إياسي منك، فقالت لا أرغب عنك أنت كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني منهم، فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا لا نراها تفعل ذلك، فقال لهم إنها قد ابتدأتني وأنا أحبّ أن تسمعوا قولها، فجاؤها فذكروا لها قالت نعم أحببت الولد فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها، فلما جاءته أسقته الخمر حتى سكر، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلًا ورأسه منصوب على باب دارها، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت حيلة مكر وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وقالوا أنت بهذا الملك أحق من غيرك فملكوها».
وعن الحسن عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل فارس قد ملكوا عليهم امرأة قال: «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة» وقوله: {وأوتيت} يجوز أن يكون معطوفًا على تملكهم، وجاز عطف الماضي على المضارع لأنّ المضارع بمعناه، أي: ملكتهم، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال من مرفوع تملكهم، وقد معها مضمرة عند من يرى ذلك، وقوله: {من كل شيء} عام مخصوص بالعقل لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان، فالمراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة {ولها عرش} أي: سرير {عظيم} أي: ضخم لم أجد لأحد مثله طوله ثمانون ذراعًا وعرضه أربعون ذراعًا وارتفاعه ثلاثون ذراعًا، مضروب من الذهب والفضة مكلل بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد، وقوائمه من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد عليه سبعة أبواب على كل باب بيت مغلق.
فإن قيل: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ وأيضًا كيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الرحمن في الوصف بالعظم؟
أجيب عن الأوّل: بأنه يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان واستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء يكون في العظم أبلغ مما لغيره من أبناء جنسه من الملوك، ووصف عرش الرحمن بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض.
فإن قيل: كيف خفي على سليمان تلك المملكة العظيمة مع أنّ الإنس والجنّ كانوا في طاعته فإنه عليه السلام كان ملك الدنيا كلها مع أنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام؟
أجيب: بأنّ الله تعالى أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها كماأخفى مكان يوسف على يعقوب، ولما كان الهدهد في خدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله تعالى فحصل له من النورانية ما هاله، قال مستأنفًا.
{وجدتها وقومها} أي: كلهم على ضلال كبير وذلك أنهم {يسجدون للشمس} مبتدئين ذلك {من دون الله} أي: من أدنى رتبة للملك الأعظم الذي لا مثل له {وزين لهم الشيطان أعمالهم} أي: هذه القبيحة حتى صاروا يظنونها حسنة، ثم تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق فلهذا قال: {فصدّهم عن السبيل} أي: الذي لا سبيل إلى الله غيره، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ثم تسبب عن ذلك ضلالهم فلهذا قال: {فهم} أي: بحيث {لا يهتدون} أي: لا يوجد لهم هدى بل هم في ضلال صرف وعمى محض.
{ألا يسجدوا لله} أي: أن يسجدوا له، فزيدت لا وأدغم فيها نون أن، كما في قوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب}.
والجملة في موضع مفعول يهتدون بإسقاط إلى، هذا إذا قرئ بالتشديد وهي قراءة غير الكسائي، وأمّا الكسائي: فقرأ بتخفيف ألا فألا فيها تنبيه واستفتاح وما بعدها حرف نداء ومناداه محذوف كما حذفه من قال:
ألايا اسلمى يا دار ميّ عليّ البلى ** ولا زال منهلًا بجرعاتك القطر

ويقف الكسائي على ألا، وعلى يا، وعلى اسجدوا، وإذا ابتدأ اسجدوا ابتدأ بالضم، ثم وصف الله تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من الاتصاف بكمال القدرة والعلم حثًا على السجود له وردًّا على من يسجد لغيره سبحانه وتعالى بقوله: {الذي يخرج الخبء} وهو مصدر بمعنى المخبوء من المطر والنبات وغيرهما وخصه بقوله: {في السموات والأرض} لأنّ ذلك منتهى مشاهدتنا فننظر ما يكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وما يشرق من الكواكب ويغرب إلى غير ذلك من الرياح والحرّ والبرد وما لا يحصيه إلا الله تعالى {ويعلم ما تخفون} في قلوبهم {وما تعلنون} بألسنتهم، وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فيهما، والباقون بالتحتية، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي لأنّ ما قبله أمرهم بالسجود وخاطبهم به، والغيبة على قراءة الباقين غير ظاهرة لتقدّم الضمائر الغائبة في قوله: {أعمالهم} {فصدهم} و{فهم} وأمّا قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ، ويجوز أن تكون إلتفاتًا على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر فخطابه ملتفتًا إليه وقوله: {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} أي: الذي هو أوّل الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها، يحتمل أن يكون من كلام الهدهد استدراكًا لما وصف عرش بلقيس بالعظم، وأن يكون من كلام الله تعالى ردًّا عليه في وصفه عرشها بالعظم فبين العظمتين بون عظيم، فإن قيل: من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟.
أجيب: بأنه لا يبعد أن يلهمه الله تعالى ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، خصوصًا في زمن نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها وجعل ذلك معجزة له، وهذه آية سجدة واختلف في محلها، هل هو هذه الآية أو عند قوله قبلها وما يعلنون؟ الجمهور على الأوّل. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}.
لما فرغ سبحانه من قصة موسى شرع في قصة داود، وابنه سليمان، وهذه القصص وما قبلها وما بعدها هي كالبيان، والتقرير لقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم}، والتنوين في {عِلْمًا} إما للنوع أي طائفة من العلم، أو للتعظيم أي علمًا كثيرًا، والواو في قوله: {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ} للعطف على محذوف؛ لأن هذا المقام مقام الفاء؛ فالتقدير: ولقد آتيناهما علمًا فعملا به، وقالا الحمد لله، ويؤيده أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقًا بعمل القلب، وهو العزم على فعل الطاعة، وترك المعصية {الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} أي فضلنا بالعلم والنبوّة وتسخير الطير والجنّ والإنس، ولم يفضلوا أنفسهم على الكلّ تواضعًا منهم.
وفي الآية دليل على شرف العلم، وارتفاع محله، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم التي ينعم الله بها على عباده، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلًا على كثير من العباد، ومنح شرفًا جليلًا.
{وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ} أي ورثه العلم والنبوّة.
قال قتادة والكلبي: كان لداود تسعة عشر ولدًا ذكرًا، فورث سليمان من بينهم نبوّته، ولو كان المراد: وراثة المال لم يخصّ سليمان بالذكر؛ لأن جميع أولاده في ذلك سواء، وكذا قال جمهور المفسرين، فهذه الوراثة هي وراثة مجازية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» {وَقَالَ يا أَيُّهَا الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير} قال سليمان: هذه المقالة مخاطبًا للناس تحدّثًا بما أنعم الله به عليه، وشكر النعمة التي خصه بها.
وقدّم منطق الطير؛ لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها غيره.
قال الفراء: منطق الطير كلام الطير، فجعل كمنطق الرجل، وأنشد قول حميد بن ثور:
عجيب لها أن يكون غناؤها ** فصيحًا ولم يغفر بمنطقها فمًا

ومعنى الآية: فهمنا ما يقول الطير.
قال جماعة من المفسرين: إنه علم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير؛ لأنه كان جندًا من جنده يسير معه لتظليله من الشمس.
وقال قتادة والشعبي: إنما علم منطق الطير خاصة ولا يعترض ذلك بالنملة، فإنها من جملة الطير، وكثيرًا ما تخرج لها أجنحة، فتطير، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه، ومعنى {وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَيْء} كلّ شيء تدعو إليه الحاجة كالعلم والنبوّة والحكمة والمال وتسخير الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب وكل ما بين السماء والأرض.
وجاء سليمان بنون العظمة، والمراد: نفسه بيانًا لحاله من كونه مطاعًا لا يخالف، لا تكبرًا وتعظيمًا لنفسه، والإشارة بقوله: {إِنَّ هَذَا} إلى ما تقدّم ذكره من التعليم، والإيتاء {لَهُوَ الفضل المبين} أي الظاهر الواضح الذي لا يخفى على أحد، أو المظهر لفضيلتنا.
{وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير} الحشر: الجمع أي جمع له جنوده من هذه الأجناس.
وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده، وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول، ولا تصحّ من جهة النقل، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي لكلّ طائفة منهم وزعة تردّ، أولهم على آخرهم فيقفون على مراتبهم، يقال: وزعه يزعه وزعًا: كفه، والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدّم منهم، أي يردّه، ومنه قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ** وقلت ألما أصح والشيب وازع

وقول الآخر:
ومن لم يزعه لبه وحياؤه ** فليس له من شيب فوديه وازع

وقول الآخر:
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى ** من الناس إلاّ وافر العقل كامله

وقيل: من التوزيع بمعنى التفريق، يقال: القوم أوزاع أي: طوائف.
{حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِي النمل} حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام، ويكون غاية لما قبلها، والمعنى: فهم يوزعون إلى حصول هذه الغاية وهو إتيانهم على واد النمل، أي فهم يسيرون ممنوعًا بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا إلخ، و{على واد النمل} متعلق ب {أتوا}، وعدّي بعلى؛ لأنهم كانوا محمولين على الريح فهم مستعلون.
والمعنى: أنهم قطعوا الوادي وبلغوا آخره، ووقف القراء جميعهم على واد بدون ياء اتباعًا للرسم حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين كقوله: {الذين جَابُواْ الصخر بالواد} [الفجر: 9] إلاّ الكسائي، فإنه وقف بالياء، قال: لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل.
قال كعب: واد النمل بالطائف.
وقال قتادة ومقاتل: هو بالشام {قَالَتْ نَمْلَةٌ} هذا جواب إذا، كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة: {يا أَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم} جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء لفهمها لذلك الخطاب، والمساكن هي الأمكنة التي يسكن النمل فيها.
قيل: وهذه النملة التي سمعها سليمان هي أنثى بدليل تأنيث الفعل المسند إليها.
وردّ هذا أبو حيان، فقال: لحاق التاء في قالت لا يدلّ على أن النملة مؤنثة، بل يصحّ أن يقال في المذكر: قالت، لأن نملة وإن كانت بالتاء فهي مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث بتذكير الفعل ولا بتأنيثه، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر، أو أنثى، ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة، ولا بالتعرّض لاسم النملة، ولما ذكر من القصص الموضوعة، والأحاديث المكذوبة.
قرأ الحسن وطلحة ومعمر بن سليمان: {نملة} والنمل بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة.
وقرأ سليمان التيمي بضمتين فيهما.